روايات

رواية خطايا بريئة الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم ميرا كرم

رواية خطايا بريئة الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم ميرا كرم

رواية خطايا بريئة الجزء الحادي والأربعون

رواية خطايا بريئة البارت الحادي والأربعون

رواية خطايا بريئة
رواية خطايا بريئة

رواية خطايا بريئة الحلقة الحادية والأربعون

وإذا أساءَ إليكَ حبيب فقل له إنني أغفرُ لكَ جنايتكَ علىَّ.. ولكن هل يسعني أن أغفر لك ما جنيتهُ على نفسك بما فعلت؟ هكذا يتكلم عظيم الحب، لأنه يتعالى حتى عن المغفرة والإشفاق.
——————
جلست ساهمة بعيون تحجر الدمع بها داخل احد اروقة المشفى ذاته الذي شَهد على خسارتها، فكانت تشعر رغم ثباتها إلا أن الأرض تدور بها و ومضات عابرة وأصوات متداخلة تطن برأسها للعديد والعديد من المواقف التي جمعت بينهم
فنعم رغم ما فعله بها إلا أنها لا تتمنى له السوء ابدًا.
تعالى بكاء أطفالها ليطغو على عاصفة ذكرياتها لتضمهم لحضنها وتحاول أن تجعلهم يكفوا عن البكاء ولكن بلا فائدة
ليغمغم “شريف” باكيًا:
-بابي هيموت يا مامي ويسبنا

لتعقب “شيري” ايضًا وهي تنتفض مختنقة بشهقاتها:
-مش هنشوفه تاني
تمزق قلبها حسرتًا على أبنائها وواستهم متفائلة:
-هيبقى كويس…هيبقى كويس بطلوا عياط
لم يكفوا عن بكائهم لترجهوهم هي بانهيار بعدما كوبت وجهه تخفي هشاشتها وضعفها:
-كفاية…كفاية متوجعوش قلبي اسكتوا

كان يقف في الزاوية البعيدة يطالع ما يحدث بعيون جامدة، وبملامح ثابتة تخالف تلك الأعاصير الموجعة بداخله فقد تفاجئ بها وبصغارها داخل المشفى اثناء مداومته وشَهد على خوفها ولكن كعادته ألتزم بثباته الانفعالي وتقدم منهم ببسمة يجيد اقتناصها في أكثر اوقاته المُحزنة ينحني أمام مقعدهم بجذعه ويقول للصغار محفزا:
-ابوكم هيبقى كويس متخافوش

نفى “شريف” برأسه و غمغمت “شيري”:
-لأ بابي هيسبنا على طول ومش هنشوفه تاني
أزاحت هي يدها وكشفت عن بهوتها وطالعته بنظرة حزينة ضائعة جعلته يزفر انفاسه يستجمع قواه ثم
جلس بجوار “شيري” و يربت على شعرها قائلًا بنبرة حنونة مطمئنة وبكل بساطة كي يستوعب عقلها:
-هو مش انا دكتور و كشفت عليكِ وخفيتي بعدها

هزت الصغيرة رأسها ليستأنف هو:
-وزميلي دكتور زي وكشف عليه وبيطمنكم هيخف ويبقى كويس

-بجد ياعمو

-اه بجد انا مش هكذب عليكم
وبعدين مينفعش ابوكم يفوق ويلاقيكم بتعيطوا كده

هزت “شيري” رأسها وكفكفت دمعاتها ثم سَكنت بين احضان والدتها، أما عن “شريف” فقد وقف مواجه له متسائلًا:
-انت طيب يا”نضال” ومش بتكدب عليا صح
ابتسم بسمة عابرة ثم جفف دمعات “شريف” بكف يده وأخبره محفزًا:
-احنا اصحاب وانا مستحيل اكدب عليكِ اجمد وخلي ابوك لما يفوق يحس انه ساب بَطل بجد

هز “شريف” رأسه باقتناع و جفف وجهه بطرف كمه قائلًا:
-انت عندك حق انا مش هعيط علشان بابي يتبسط مني

-طيب روح اغسل وشك في الحمام هناك في اخر الممر ده

هز رأسه واستأذن من “رهف” التي كانت تتناوب النظرات بينهم مشدوهة من امكانيته في إقناع وتهدئة ابنائها بعد فشلها، لتسمح
له وإن ركض من أمامهم ضمت رأس “شيري “التي غفت على حجرها وسألته بعيون يتحجر الدمع بها:
-شكرًا
لم يعير شكرها اهمية بل تسائل بأهتمام:
-ليه جبتيهم معاكِ مسبتهمش ليه مع “كرملة”؟
اجابته بملامح متهدلة:
-لما “حسن” وقع عقلي وقف ومكنتش عارفة اتصرف حتى معرفش اتصلت إزاي بالإسعاف
لترفع رماد عيناها له وتسأله:
-هو صحيح هيبقى كويس

تنهد وأجابها وهو ينزع نظارته الطبية ويمسد منحدر أنفه:
-اتعمل التحاليل والفحوصات اللازمة متقلقيش دي غيبوبة سكر عادية
ألقت سؤالها مستغربة:
-بس هو معندوش السكر

-مش شرط السكر زي الضغط و ممكن يكون اتعرض لضغط عصبي خلي نسبة السكر تعلى في الدم

-فعلًا هو جاله مكالمة و تعب بعديها
هز رأسه وألتزم بثباته رغم تلك الأعاصير التي تعصف بدواخله لتستأنف هي:
-الولاد يقدروا يشوفوه

-هو دلوقتِ بيتعمله اللازم وهستأذلك الدكتور اللي بيتابع حالته انكم تدخلوله

هزت رأسها وتنفست براحة اكبر جعلته يهب من جلسته ويتهرب قائلًا قبل أن يفتضح امره:
-انا همر على المرضى… مكتبي اخر اوضة على اليمين لو حبتي تقعدي الولاد فيها عقبال ما تطمني عليه معنديش مشكلة…

هزت رأسها دون حديث ليتنهد ويواليها ظهره كي يغادر وكونه يعلم ترددها وتلك المسافة الأمنة التي تتعمد أن تكون بينهم ألتفت من جديد واضاف بأهتمام بالغ لم يستطيع أن يكبح ذاته عنه :
– انا هنا يا بشمهندسة ومش همشي من المستشفى و ارجوكِ لو احتجتي حاجة متتردديش

اومأت له ببسمة باهتة لم تمسس رماد عيناها ثم نكست رأسها تشرد من جديد ليزفر هو انفاسه ويغادر من أمامها وهو يلعن حظه العسر فكان يظن أنه على أعتاب أن يصارحها ولكن بعدما حدث أدرك أن ذلك ال” حسن” كان ومازال عائق يحيل بينه وبين امنيته البعيدة.
———————-
كلما تذكرت قُبلته وذلك العناق الدافئ الملفح بالأهتمام تتورد بشدة وتنتابها قشعريرة لذيذة وها هي تبتسم شاردة أثناء جلوسها مع ابيها أمام التلفاز فقد لاحظ ما بها وقال كي يقطع شرودها:
-يا بخته اللي واخد عقلك
أطرقت برأسها ولملمت خصلاتها قائلة بخجل:
-يوه بقى يا بابي

-بتحبيه اوي كده!

-بحبك انت اكتر

-يا اونطجية بتقوليلي كده علشان تهربي من السؤال
– لا مش بهرب وبحبه …بحبه اوي يا بابي انا مش عارفة كنت عايشة من غيره ازاي انا كنت ضايعة قبل ما اعرفه.
ليتمتم هو نادمًا:
-سامحيني يا بنتي وحقك عليا انا جيت عليكِ كتير وكنت فاكر إني بحافظ عليكِ

-خلاص يا بابي اللي فات مات على رأي “شهد” وانا نسيت وفرحانة اوي أننا قربنا من بعض وبقيت جنبي علطول ومش بتسافر
تنهد بضيق ثم استرسل بندم:
-انا معنديش في الدنيا اغلى منك وكنت بحفر في الصخر علشان أأمنلك مستقبلك…بس بعد اللي حصل اكتشفت أن الفلوس ملهاش قيمة وأن في حاجات كتير كان مفروض اعملها أهم من جمعها…انا خلاص مش هعيش أد اللي عيشته وضيعت بغبائي احلى سنين عمري وخايف اموت قبل ما اشبع منك واشوف ولادك
ارتمت بحضنه قائلة:
-بعد الشر عليك يا بابي ربنا يخليك ليا
ربت على ظهرها بحنو قائلًا:
-ويخليكِ ليا يا حتة من قلب بابي

-الله الله ده ايه الأحضان دي
قالها “كاظم” وهو يدخل الغرفة ويجلس على أحد المقاعد المواجهة لهم، لترحب “ميرال”:
-اهلًا بالعريس المنتظر

– يسمع من بؤك ربنا

قهقهت هي وشاكسته:
-ايه يا أبيه مالك فين التقل انا مش اخدة عليك كده
زجرها “فاضل “قائلًا:
-بنت عيب كده

-عيب ايه يا بابي ده أبيه فاق كل التوقعات بصراحة انا كنت مصدومة لما “محمد “قالي انه طلب ايد “شهد “

-فعلاً الموضوع غريب ليكِ حق!

تسائل” كاظم “مستنكرًا:
-ليه ايه الغريب في الموضوع هو انا منفعش ولا ايه يا عمي!

أوضح “فاضل” وجهة نظره:
-لأ يا ابني متفهمنيش غلط بس أنت كنت عايش برة وشوفت ستات اشكال والوان وكمان مراتك كانت ايطالية يعني مش شايفها غريبة تعجبك واحدة زي” شهد”

شهقت” ميرال “ودافعت وهي تضع يدها بخصرها:
-هي “شهد” وِحشة ولا ايه يا سي بابي دي قمر وبعدين كفاية حنيتها و طيبة قلبها

ابتسم “كاظم” وايدها بكل اقتناع:
-بالظبط كده زي ما قالت “ميرال” يا عمي اللي عجبني فيها طيبتها وتلقائيتها ورغم انها حد بسيط جدًا ومش متكلف إلا أن فيها جاذبية غريبة وحاجات ملقتهاش في غيرها… وانا وبنتي محتاجنها

-على العموم دي حياتك وأنت المسؤول الأول والأخير فيها…عن اذنكم انا طالع انام تصبحوا على خير

ردو تحية المساء وإن ابتعد “فاضل” تسأل “كاظم” بنبرة متلهفة:
-طب مفيش اخبار منها…انتِ كلمتيها بعدها.

نفت “ميرال” برأسها واخبرته:
-لأ بس بكرة هنزل انا وهي و”محمد “نشتري شوية حاجات للفرح وهنشوف القاعة وهبقى اتكلم معاها
هز رأسه بتفهم لتستأنف “ميرال” ببسمة واسعة:
-مبسوطة اوي بأختيارك ليها يا ابيه علشان هي حد طيب اوي وكتير وقفت جنبي

-احكيلي يا “ميرال” حابب اعرف عنها اكتر.

-هحكيلك مواقفي معاها بس اسفة يا أبيه في حاجات مش هينفع اقولهالك ولازم تعرفها منها مش مني

أومأ لها بتفهم لتسترسل “ميرال” حديثها عنها وتقص عليه كيف ساندتها ودعمتها ضد شقيقها، مما جعله يستمع لها ببسمة هادئة رزينة تنم كون حدثه لم يخطئ ابدًا بشأن اختياره لها.
——————-
دست المعلقة بطبق الحساء كي تطعمه ولكنه رفض قائلًا:
-شبعت يا “نادين” واللهِ كفاية

-لازم تاكل كويس علشان تخف بسرعة
تسائل بخبث وهو يرفع حاجبه:
-عايزاني اخف بسرعة ليه؟ يارب يكون لأغراض من الي بالي بالك

-“يامن” بَطل كلامك ده ماما “ثريا” ممكن تسمعنا
-طب ما تسمعنا هو احنا بنسرق انتِ مراتي وبعدين هو انا قولت حاجة ده انا بس بطمن أن نواياكِ دنيئة نحيتي

ابتسمت بلا فائدة و وضعت طبق الحساء بالصينية التي تعتلي الكمود ثم قالت باشتهاء شديد:
-هي من ناحية دنيئة فهي دنيئة وأولها انا نفسي في أم الخلول بصراحة
بقالها كتير هافة عليا

-وساكتة ليه عايزة ابني او بنتي يطلعلهم ملخلولة في وشهم… طلباتك أوامر هكلم “حسن” يجيب من القاهرة وهو جاي

هزت رأسها بحماس ليتسأل وهو يقرص وجنتها:
-اشمعنا أم الخلول نفسي اعرف !

– بحبها

هز رأسه ببسمة واسعة وقال ماكرًا:
-طب تعالى اقولك حاجة
في بؤقك
ليلاحق ما إن شهقت متفاجئة:
– قصدي في ودنك بلاش تبقى متسرعة وتفهميني صح …
هزت رأسها بلافائدة ليستأنف وهو يمط فمه:
-بصراحة انا كمان نفسي في حاجة من ساعة ما فوقت هموت عليها

-ايه هي يا حبيبي قول

اجابها بنبرة عابثة وهو يُسبل عيناه:
-بوسة يرضيكِ ابقى مطخوخ علشانك وتبخلي عليا

-“يامن” احنا في المستشفى وبعدين ماما “ثريا “معانا علطول ازاي بس

-طب ما هي برة انتِ مش قولتي خرجت من الاوضة علشان تكلم “رهف” يعني لسه قدمها شوية دي لما بتتفتح مع “رهف” بذات بتتأخر

-يا سلام اقنعتني كده صح

قرص على شفته السفلية وهو يحاول جذبها:
-لازم تقتنعي ولا انتِ بتستغلي إني راقد ومقدرش اقوم

شاكسته بمكر لكي تغير سير الحديث:
-شوفت بقى انك لسه جعان خليني اكملك اكلك
لم يحتمل مكرها فقد جذبها من مؤخرة رأسها والتهم شفاهها بقبلة لحوحة تفيض فيض بتوقه الشديد لها الذي جعله يحتضنها غير عابئ بألم جرحه الذي لم يلتئم بشكل كامل بعد.
دفعته عنها برفق كي يفلت حصارها خوفًا أن يتأذى جرحه ولكنه كان مُصر أن يسلب انفاسها بقبلاته، فقد
استسلمت له وفي غضون ثوان توقف عما يفعله وابتعد عنها وقال بأنفاس متلاحقة وهو يسند ظهره للخلف ويدعي الألم:
-آه ه ه ه ه حرام عليكِ عمال اقولك تعبان … هو انتِ معندكيش قلب و مش عتقاني

شهقت من حديثه واستغربته كثيرًا ولكن حين اتاها صوت الممرضة من خلفها ودت أن تنشق الأرض وتبتلعها من شدة حرجها:
-واه بالهوادة على نفسك يا ولدي واختشي

-الحب بهدلة يا حجة والله
قالها بقلة حيلة وهو يغمز ل “نادين” لترد الممرضة ببسمة محرجة:
-اه منيكم يا أهل البندر عليكم حاچات غريبة… بس خابر هي تستاهل العشج الِبنية جلبها كان مخروع عليك

زجرته بنظراتها ونهضت كي تخفي ارتباكها ثم همهمت بأنفاس مضطربة وهي تضع يدها على فمها:
-اه قوليله…انا هدخل الحمام اغسل وشي

-ينفع اجي معاكِ…
قالها بغمزة من ناعستيه جعلتها تستغل ان الممرضة توليهم ظهرها وتقوم بتغير المحلول له لتميل عليه وتقترب من وجنته ليظن هو انها ستنصاع لرغبته ولكن باغتته هي بغرس اسنانها دون الضغط عليها وقولها بمشاكسة:
-علشان تحرم قلة أدب

تأوه هو كي يلاعبها:
-آآآه يا عضاضة والله انتِ مفترية هو انا ناقص ده شكل هرمونات الحمل هتطلع عليا

-بالظبط كده يا رخم
قالتها وهي تخرج لسانها له بحركة لطالما ذكرته بتلك الطفلة صاحبة الضفائر الطويلة ذاتها
لتتسع بسمته شيء فشيء ويشعر أن قلبه المُولع بها زاد فيضه وأطاح بالباقي من عقله في سبيل عشقها.
——————
-يعني ايه رأيك؟

تنهدت واجابتها مترددة:

-معرفش

-يا “شهد” حرام عليكِ بقالي ساعة بقنعك وبحكيلك عنه

-يوه وانا اعمل ايه طيب هي الحاجات دي مبتجيش خبط لزق كده لازم تأني

-طب هتتأني أد ايه علشان اطمن أبيه

-انا صليت استخارة واللي في الخير يقدمه ربنا

لتتسأل” ميرال ” بألحاح مستميت:
-يعني في أمل…مش كده

-هو انت متعرفيش أن امل ماتت محروقة

قالها وهو يجلس على الاريكة بجوارها بعدما انتهى من ارتداء ملابسه ليستعد للمغادرة معهم، شهقت هي ونكزته:

-يا “حمود” انت بتحبطني ليه ده بدل ما تحاول تقنعها معايا

-سيبيها براحتها يا “ميرال” دي حياتها وهي حرة فيها

-طب انت ايه رأيك؟

-انا معنديش مانع وشايفه حد محترم جدًا واللي عجبني فيه أنه لا لف ولا دار ويعرف الأصول كويس رغم عيشته بره

تأففت “شهد” ونهضت تقول بتردد شديد:

-برضو انا لازم اخد وقتي أصل يعني عيشته مش زي عيشتنا …ولازم برضو اشاور “طمطم” و أعرض الموضوع على حماتي

قالت “ميرال” رأيها:

-معتقدش أن “طمطم” هترفض هي متكرهش تشوفك مبسوطة
وموضوع حماتك فأنا بصراحة مش شايفة داعي لده

-لأ ازاي لازم اقدرها واحطها في الصورة مش هاخد بنتهم وادخل بيها لراجل غريب يبقى لازم تعرف وترضى كمان.

-بس…

قاطعها “محمد” بعقلانية:

-خلاص يا “ميرال” سيبيها براحتها وتاخد الوقت اللي محتجاه

هزت رأسها بطاعة لتقول” شهد “وهي تهم وتخرج من الغرفة:

-انا هروح ألبس علشان نلحق نشتري لوازم الفرح ده خلاص مفضلش غير كام يوم

لترجوها “ميرال”:

– بس بسرعة يا “شهد”

فور نطقها كان يضع كتفه حولها ذراعها ويهمس بعبث وهو يضمها له و يضع قُبلة خاطفة على خدها:

-سيبيها براحتها متستعجلهاش علشان في وعد ناوي اخل بيه

شهقت هي وبرقت عيناها وهبت من جلستها مهرولة للخارج:
-لأ مفيناش من كده خديني معاكِ يا شهد

-استنى يا حلو هقولك

نفت برأسها وتوهجت بشدة مما جعله

يقهقه على خجلها وتتعالى صوت ضحكاته لترفرف قلبها وتجعلها تتنهد وتقول بتنهيدة حارة وعيون مُسبلة وهي تضع يدها موضع قلبها:

-يخربيت جمال ضحكتك
—————–
رغم حُزنه الشديد على أبيه ولكن لم يطاوعه ضميره أن يغضب عليها كونها شَهدت بالحق وكيف يفعل وهو ذاته كان لا يرضى بتضليله.ولكن لا ينكر انه يموت قهرًا لمَ آل إليه حال ابيه وكم لعن ذلك الشيطان اللعين الذي استغل ضعف نفسه أمام المال و اقحمه في ذلك المأزق اللعين.
ففور أن تعافى بعض الشيء خرج من المشفى و جاء إليه وهاهو يجلس في غرفة الضابط المسؤول ينتظر قدومه بعدما اخذ أذن بزيارته…وفور دخول “عبد الرحيم” للغرفة تهللت اساريره وهرول يحتضن و لده قائلًا بفرحة عارمة:
-وَلدي حمد الله على سلامتك يا نضر ابوك انت زين طمني

شدد “حامد “على عناقه وأخبره بملامح حزينة متهدلة بأسى:
-انا بجيت زين يا ابوي…زين

هنا انسحب الضابط من الغرفة قائلًا:
-طيب هسيبك يا “حامد” مع ابوك بس عشر دقايق مش اكتر

رد “حامد” ممتنًا وهو يفصل عناق أبيه:
-تشكر يا بيه

بينما نظر “عبد الرحيم “متمعنًا بوجهه وكأنه يتأكد انه لم يهيأ له كون ولده أمامه وبخير ثم قال حامدًا:
– حمد والشكر لله أنه ريح جلبي عليك يا وَلدي

نظر له” حامد” نظرة مطولة جعلت “عبد الرحيم” ينكس رأسه حين سأله مؤنبًا:
-ليه يا ابوي!

اجابه بخزي من نفسه:
-سامحني يا ولدي انا مدريتش بحالي من جهرتي عليك

ليستأنف عتابه:
-چوز بت عمتي كان ممكن يموت من ورا عملتك المغفلجة دي

رد “عبد الرحيم” بحسرة وكأن لم يتعظ:
-ياريته كان مات وريحنا منيه بس الغريب بسبع ارواح

هز “حامد”رأسه بلا فائدة وتابع عتابه المضني وهو يجذبه ليجلسه على الاريكة الجلدية التي خلفهم:
-واني كُمان يا ابوي كنت هموت لولا ستر رَبنا…كيف مفكرتش أن الرصاصة اللي صابتني كانت رصاصة رحمة علشان تفكرك إن ربنا مش غافل عن نواياك وعايزك تتوب وتتعظ لكن انت تنيتك على عنادك

نكس “عبد الرحيم ” رأسه واجابه:
-كنت رايد ارچع حجي في مال خيتي إحنا اولا بيه من الغريب ولما لجتيك غرجان في دمك مدرتش بحالي…

-المال كان هيغنيك عني وعن راحة بالك يا ابوي… كنت هتبجى مرتاح لما تجتله وتحرج قلب امه ومَرته عليه… كنت هتحط جتتك كيف على فرشتك وتنعس يا ابوي من غير ما يوجعك ضميرك! ليه عملت إكده وهينت شيبتك وضيعت هيبتك يا ابوي

-اني راضي بأيتها حاچة يا ولدي غير أن يصيبك سوء

-بس اني كان نفسي تربي ولدي لما يجي وتنضره بيكبر جصاد عنيك

تقلصت معالم “عبدالرحيم” مستغربًا والتمع بعينه السؤال ليجيبه “حامد”:
-مرتي حِبلة ياابوي
هنا هب “عبد الرحيم” من جلسته وقال بضغينة دون أن يعير الخبر أي أهمية:
-واه يبجى عشان إكده شَهدت علي بكل عين وچباير وحبلها جوي جلبها وخلاها تِشهد علي وتودرني…

-بلاش تظن السوء فيها يا ابوي هي خبرتني باللي حوصل وهي مظلمتكش يا ابوي هي جالت الحَج وكل الخلج شَهدت عليكِ حتى الغفير جال على اللي حوصل في التحجيجات

-لولا هي سبجت مكنش حد فيهم اتچرأ وفتح خشمه كلالتهم هيعملولي ألف حساب

-عشان خايفين منيك يا ابوي ومن چبروتك لكن لما نطجت هي بالحَج كل واحد چيت عليه واستجويت ردهالك

-واه بكفياك انت جاي تجف جصادي عشان تنجرزني ولا ايه
ده بدل ما تچبلي محامي يطلعني منيها

تهدلت معالم “حامد” وقال بيأس شديد من ذلك الكِبرالذي مازال يسيطر على قلب أبيه:
-مش جصدي انجرزك ولا اجف جصادك إني بس حزنان عشان لساتك على عنادك و مكابرتك… أطرق “عبد الرحيم” رأسه ولم يجيبه ليستأنف “حامد”:
– انا چبت محامي زين هيتولى كل حاچة… وهدعيلك يا ابوي ربنا يهديك ويزيح عنك شيطانك
قالها تزامنًا مع دخول الضابط و أحد الأمناء الذين اعلنوا نهاية زيارته، وإن قبض الأمين على ذراعه وبدأ في سحبه معه ليرجعه للحبس صدر قول “عبد الرحيم” بنبرة راجية اكثر منها متسائلة وعينه متعلقة على ولده:
-هتبجى تعاود تزورني يا ولدي…ولا هتجاطعني

استشعر رجاءه بنبرته فلم يطاوعه قلبه أن يتركه دون أن يطمئنه فرغم افعاله المخزية إلا انه مازال أبيه لذلك تنهد بعيون غائمة وبقلب يتألم هرول إليه يلاحق خطواته ثم بقلة حيلة انحني على يده يقبلها قائلًا ودمعاته تزف حسرته:
-هعاود يا ابوي…ومش ههملك واصل وهدعيلك ربنا يفك كُربتك
ويرچعك لينا سالم

ربت” عبد الرحيم” على كتفه ثم دون حديث استجاب لجذب الامين له، تارك ولده ينظر لآثاره بقلة حيلة وبعيون دامعة متحسرة.
——————-
كانت في المسجد تأخذ درس في تلاوة و تجويد القرآن الكريم كما تعودت في المواظبة عليها قبل سفرها تلك العطلة الصغيرة التي حظت بها مع والدها وعائلته في احد محافظات الوجه البحري.وبعد انتهائها وأثناء سيرها خارج المسجد ودون أن تخرج من ساحته الواسعة لمحت شخص هيأ لها انها تعرفه يقوم مع مجموعة شباب مثله بأعمال تطوعية تخص نظافة المسجد. تجمدت بأرضها تستوعب كونه هو وكم استغربت هيئته المختلفة كل البعد عن سابقتها استغفرت الله بسرها كونها اطالت النظر ثم التفتت كي تغادر ولكن اتاها صوته حين رأها و تقدم منها دون النظر لها مباشرتًا:
-ازيك يا “نغم”
التفتت بمضض وردت بإقتضاب:
-الحمد لله يا “فايز”…
كادت أن تغادر ولكن فضولها دفعها لسؤاله بتحفظ:
-هو انت بتعمل ايه هنا؟
اجابها “فايز” بفخر ظهر جلي في نبرته:
-انا انضميت للزملاء في خدمة بيوت الله

هزت رأسها بتفهم وقالت بتحفظ:
-ربنا يجازيك خير …اللي بتعمله ده من باب تعظيم حرمات ربنا وتعظيم شعائره، وربنا سبحانه وتعالى قال: “وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ”.

ابتسم بسمة صافية واخبرها وهو مطرق الرأس يتحاشى النظر لها:
-الحمد لله على نعمته …ليتحمحم ويتسأل بتردد:
-كنتِ منقطعة من فترة طويلة يارب يكون المانع خير
استغربت سؤاله ولكنها أجابته بتحفظ:
-اه فعلًا كنت مسافرة مع بابا اجازة البلد…بس غريبة انت عرفت منين!

-كنت بشوفك وانتِ مروحة من الدرس بتاع الحجة “فاطمة” اصل انا كمان بحفظ قرآن بقالي فترة ومواظب الحمد لله مع الشيخ “خضر”

هزت رأسها وكادت تعتذر وتغادر ولكن فضولها دفعها كي تسأله:
-ايه اللي غيرك كده انا مش مصدقة ان ده انت “فايز” اياه صاحب “طارق المسيري” وضله اللي مكنش بيفارقه

أجابها بنبرة استشفت بها حزنه:
-(يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)
وبعدين “طارق” اتوفى الله يرحمه ويسامحه

-الله يرحمه…اكيد زعلت عليه صح ده كان صاحبك اوي

-بعد موته دخلت في حالة اكتئاب لغاية ما ربنا جمعني ببعض الزملاء اللي و وجهوني لطريق الصواب

-ربنا يتقبل منك عن اذنك لازم امشي

-“نغم” هو ممكن اخد رقم والدك
عقدت حاجبيها و سألته مستغربة:
-ليه مش فاهمة؟

ناولها هاتفه وطلب بأدب دون أن يدخل في تفاصيل:
-هتفهمي كل حاجة بعدين بس ممكن تسجليلي الرقم هنا…علشان ميصحش وقفتنا كده وآسف إني وقفتك بالطريقة دي

فعلت ما أراد وهي مرتبكة للغاية وإن انتهت هرولت مُسرعة من أمامه مما جعله يبتسم على خجلها ويدعوا الله أن يرزقه وصالها في الحلال.
——————
-واه بكفياك يا جلب جمر
قالتها بعيون دامعة وبنبرة مواسية وهي تمسد على رأسه المسنودة على حجرها بحنو شديد، ليضيف هو بدمعات حارقة:
-مش هاين علي اشوفه إكده يا جمر جلبي كان بيتجطع جطيع عليه واللي جاهرني اكتر إن المحامي هيجول أن عجوبته مش هتجل عن خمستاشر سنة

شهقت “قمر” وضربت على صدرها نادمة:
-يامري …يامري… ياريت كان لساني انجطع…إني السبب

اعتدل بجلسته وقال وهو يمرر كف يده على وجهه:
-انتِ جولتي الحَج وما افترتيش عليه وبعدين هو اللي ودر حاله لحاله…

نكست رأسها وتسائلت بتقريع ضمير:
-يعني أنت مش عاتب عليّ يا “حامد”
أجابها بثقة وهو يجذب يدها بين راحتيه بيد وباليد الأخرى يمررها على خدها كي يزيح تلك الدمعات التي تضامنت معه:
-جولتلك لع يا جلب “حامد” الساكت عن الحَج شيطان اخرس
وإني لو عندي شك واحد أن ابوي مظلوم كنت مش بس عتبت عليكِ كنت جصيت لسانك كُمان

هزت رأسها بتفهم وردت دون مجادلة:
-وجتها كان حجك تعمل فيا اللي انت رايده بس يعلم ربنا أني مظلمتهوش ولساني نطج من جهرتي وحرجتي عليك

ضمها له وقال بعدما وضع قبلة حانية على قمة رأسها:
-خابر زين يا حبة جلبي وخابر كُمان ان جواك كيف اللبن الحليب مهيعرفش اللوع

حانت منها بسمة عاشقة ممتنة لثقته المتناهية بها ثم رفعت رأسها دون أن تخرج من احضانه و تسائلت بأهتمام:
-طب وايه العمل مينفعش چوز “نادين” يتنازل او نشوف طريجة تهون الحكم عليه.
تنهد تنهيدة مثقلة ثم اجابها بملامح متهدلة:
-لولا ستر ربنا الحكومة ملجتش اللي طخني وابوي مچبش سيرته واتجيدت ضد مجهول و المحامي هيجول أن الجضية التانية طالما چناية واتحولت للمحكمة مهينفعش تنازل وحتى لو غير اجواله مبجاش ينفع مع شهادة أهل البلد يعني خلاص ملهاش مخرج وابوي هيتحكم عليه يجضي الباجي من عمره بعيد عنِنا
كان يتحدث بنبرة حزينة مغلفة بالأسى قطعت نياط قلبها وجعلتها تدفن وجهها بصدره تخفي دمعاتها كي لاتزيدها عليه ثم شددت على ضمه لجسدها وكأنها تود أن تتقاسم معه ما يشعر فليس هين عليها رؤيته على ذلك الحال فقلبها يأن مثل قلبه وضميرها ينهش بها ولكن ليس لما اقدمت عليه بل من أجل حُزن زوجها.
——————-
مر يومان على رقدته ومن حينها وهي لم تفارق موضعها هي واطفالها كي تطمئن عليه و اول شيء رأه حين فتح عيناه كانت هي ببسمتها المعهودة التي ذكرته بذلك الربيع الذي كان يهفهف على قلبه بعدها، رمش عدة مرات يود أن يتأكد كونه لم يهيأ له، لتتحدث هي:
-حمد الله على سلامتك يا “حسن”

حانت منه بسمة ضعيفة باهتة وهمس بضعف:
-“رهف” هو ده انتِ صح انا مش بحلم مش كده معقول فضلتي جنبي

-أنت ابو ولادي يا حسن ومكنش ينفع اسيبك …إن شاء الله هتبقى احسن الدكتور طمني ويومين وهيكتبلك على خروج

-هو ايه اللي حصل؟

-الدكتور قال غيبوبة سكر

جعد حاجبيه مستنكرًا لتستأنف هي:
-كنت زيك مستغربة بس الدكتور قالي أن السكر زي الضغط بيتأثر بالعوامل النفسية والظاهر أن الخبر اللي سمعته هو السبب

تجهمت معالم وجهه واخبرها بنبرة واهنة:
-مواد البناء والمعدات اللي جوة الموقع اتسرقت كلها
-ازاي وفين بتوع الحراسة؟
-الشغل واقف والمرتبات وقفت معاه وكل الموظفين وحتى شركة الحراسة انسحبت من الشركة و مكنش فاضل غير الغفير ولقوه مضروب ومتربط واللي قهرني أن اللي بلغني قال إن “منار” هي اللي ورا كل حاجة واعترفت على ابن***اللي اسمه “حسام”

-وليه مبلغكش في ساعتها ؟

-انا كنت قافل تلفوني وانا عند” يامن “علشان اتهرب من المستشار القانوني بتاع الشركة اللي متعاقد معاها اصله طالبني بالشرط الجزائي ومكنتش عارف هتصرف ازاي

تنهدت حانقة ثم طمئنته:
-متقلقش انا هتصرف وهحل كل حاجة المهم دلوقتِ تشد حيلك وتقوم بالسلامة

-هتتصرفي ازاي يا “رهف” ؟

-مش واثق فيا يا “حسن” مش كده

-انا مبقتش واثق فأي حاجة ليها علاقة بيكِ انتِ اتغيرتي اوي عن “رهف” اللي كنت اعرفها

-قصدك اللي أنت غيرتها..في فرق كبير بين الاتنين لكن دايمًا كان في حاجة ثابتة بينهم أنك أنت ابو ولادي اللي عمري ما اتمناله حاجة وحشة
سألها بتنهيدة مثقلة بالندم:
-انا ازاي ضيعتك من ايدي يا “رهف”

-السؤال اجابته انت عارفها كويس يا “حسن”
-“رهف” انا لسه…
كان على وشك محاولة استعطافها لكن قاطعه اندفاع الباب ودخول سيدة في الثلاثين او أكثر من عمرها ويظهر القلق جلي على تقاسيم وجهها، عقدت “رهف” حاجبيها وسألتها بأدب:
-حضرتك مين؟

رمقتها بطرف عيناها ثم اجابتها متعجرفة:
-انا جاية اطمن على مستر “حسن ”
انا شغالة عنده في الشركة

رحبت “رهف” بها بملامح ثابتة:
-تمام اتفضلي

تقدمت من فراشه وانحنت بجزعها عليه بطريقة لا تنتمي للحياء بشيء ثم وضعت باقة الورود بيده قائلة:
-حمد الله على سلامتك يا مستر “حسن”
تحمحم هو ثم تناوب نظراته بتوتر بينهم و أجابها بإقتضاب وهو يضع الباقة اعلى الكومود بلا اكتراث:
-شكرًا…
ابتسمت واخبرته :
-اسمي “سميرة” وشغالة في قسم الحسابات انا من ضمن اللي لسه مسابوش الشغل ومخلصين لحضرتك

أومأ لها وعينه لاتفارق” رهف “يتوجس من ردة فعلها ويخشى أن تظن به السوء فهو يقسم أن تلك المرة الأولى التي يرى بها تلك ال “سميرة”غريبة الأطوار
بينما هي كانت تتناوب نظراتها بينهم بملامح ثابتة لم يستشف منها شيء وزادت من توتره، لتجلس الأخرى على المقعد المواجه لفراشه وترشق “رهف” من أعلاها لأخمص قدمها ثم تشدقت بسؤالها:
-مش أنتِ طليقة مستر” حسن “برضو ولا بيتهيئلي

ردت “رهف” ببرود وهي محتفظة بثباتها:
-اه انا في مشكلة
نفت برأسها وصبت كافة تركيزها عليه قائلة بأهتمام فائق:
-حمد الله على سلامتك يا مستر “حسن” انا اول ما عرفت جيت جري علشان اطمن عليك

لتزفر “رهف” انفاسها وتخبره بهدوء يخالف تلك العاصفة التي تقصف بها:
– لما الزيارة اللطيفة دي تخلص هجيب الولاد يطمنوا عليك اصل ما حبتش يشوفوك قبل ما تفوق

كادت تفتح الباب لتغادر الغرفة ولكن سؤاله اوقفها:
-هما الولاد فين؟
اجابته ببسمة استفزته على الأخير وجعلت نيران الغيرة تشتعل بقلبه:
-في أوضة الدكتور “نضال” اصل انت في نفس المستشفى اللي بيشتغل فيها

ذلك أخر ما قالته قبل أن تترك الغرفة تاركته
يزمجر غاضبًا من سيرة ذلك ال “نضال” التي تثير جنون غيرته
أما عن تلك الزائرة كانت تستغرب ما اعتراه وتسألت:
-هو أنت كويس يا مستر” حسن”!
لعنها بسره واجاب بإقتضاب وبملامح متجهمة:
-كويس
——————-
دفعت باب مكتبه وهي تظنه غير متواجد بداخله ولكن خالف ظنونها و وجدته يجلس يربع قدمه ويتوسط اطفالها ويتناول معهم الطعام وحين رأوها شهقوا متفاجئين بها وهدر هو بخفة وهو يدس قطعة البيتزا بأكملها بفم “شريف” المنفرج صدمتًا من حضورها الغير متوقع :
-احيه قفشتنا!وملحنقاش نداري الجريمة

قهقهوا الصغار بقوة حتى كادو يختنقوا بطعامهم بينما هي كادت البسمة تتسلل على ثغرها ايضًا ولكنها قلبت عيناها بلافائدة و ظلت على ثباتها معاتبة:
-كده برضو يا ولاد بتاكلوا أكل من برة أنتو مش عارفين أنه مضر ومش مفيد ابدًا

عقبت “شيري” على حديثها بعدما اندثرت ضحكاتها:
-سورى يا مامي بس كنا جعانين اوي وزهقنا من السندوتش

ابتلع “شريف” ما بفمه بصعوبة واعتذر مثلها:
-سوري يا مامي هو “نضال” سألنا واحنا اللي طلبنا منه

تنهدت هي ونظرت له نظرة مطولة مؤنبة جعلته يهب من جلسته ويقول ببساطة دون تعقيد:
-بلاش تبصيلي كده كانوا جعانين يعني اقف اتفرج عليهم وبعدين حرام بقالهم يومين مش بياكلوا غير ساندوتشات وزهقوا منها

-تقوم تسمع كلامهم يا دكتور
تنهد بقلة حيلة واجابها وهو ينظر لهم بنظرات حانية:
-طب بذمتك ازاي عايزاني اصمد قدام اتنين زيهم وبعدين كنتِ عايزاني اعمل ايه!اجبلهم اكل من بتاع المستشفى اللي بيطفشوا العيانين بيه
كان لازم اتصرف وبعدين مرة واحدة مش هتضر يا بشمهندسة

اصهب في شرح الموقف لها بطريقة اقنعتها وجعلتها تزفر انفاسها وتهز رأسها دون حديث ثم جلست على المقعد المواجه لمكتبه ساهمة مما اثار ريبته وجعله يطلب من صغارها:
-طيب عارفين طريق الحمام روحوا اغسلوا ايدكم و وشكم يا ولاد ليربت على خصلات” شيري” ويستأنف مشاكسًا:
-بس اوعي يا زقردة تبلي هدومك وتلعبي في الماية زي عوايدك
هزت رأسها بطاعة ولكن
لم يتحركوا خطوة واحدة إلا حين هزت “رهف” رأسها ليركضوا سويًا من أمامها، ليتسأل هو:
-مالك حاجة حصلت؟

تنهدت وهزت برأسها، ليلح هو:
-لو حابة تتكلمي هسمعك

تحدثت دون تفكير وبتنهيدة متثاقلة غير عابئة بتلك النيران التي ستندلع به بعد حديثها:
-في حاجات كتير جوايا مش عارفة اترجمها وحاسة إني تعيسة وضايعة ومتلخبطة

شعر بقلبه يحترق بين احشائه من تصريحها الذي يعلم انه نابع من تأثرها بما حدث ل “حسن” ثم اجابها بتلك البسمة التي يجيد اقتناصها في أكثر أوقاته بؤسًا وهو يجلس مواجه لها:
-بس أنا اتعس منك

زفرت بضيق ومررت يدها على وجهها قائلة بضجر:
-مش فايقة بجد لهزارك

اجابها بكل ثبات انفعالي كعادته وهو محافظ على بسمته:
-انا مش بهزر انا حاسس إني اتعس واحد في الدنيا وكل ما اقرب خطوة الظروف تعاندني وارجع ألف لورا

استشعرت بحدثها ما يلمح له وحينها دق ناقوص الخطر وجعلها تود الفرار:
-انا هروح اشوف الولاد واخليهم يطمنوا على ابوهم

قالتها وهي تهب واقفة كي تغادر مكتبه ولكنه منعها قائلًا وهو يقبض على رسغها برفق:
-عارف إنك عايزة تهربي بس متهيئلي جه الوقت تعرفي بقيت الحكاية

عاندت هي ورفضت قائلة:
-ارجوك انا مش عايزة اسمع حاجة سيبني اخرج

أصر بنبرة يائسة تملك الاحباط منها:
-مش هسيبك غير لما تسمعيني اعتبريها محاولة من واحد بائس محبط مبقاش فاضله أي أمل

-“نضال” لو سمحت
حانت منه بسمة مختلفة عن سابقتها وهمس بغصة تسكن احشائه منذ زمن:
-تعرفي أن اسمي حلو أوي منك كان نفسي اسمعه من سنين

-ارجوك اسكت مهما كان اللي عايز تقوله مش هيغير حاجة

-لأ هيغير يا “رهف”

-ليه قررت تتكلم في التوقيت ده !

اجابها بنبرة مرتعشة متألمة وهو يشعر بيأس لا مثيل له:
-علشان حاسس إني هخسرك للمرة التانية بسببه و عارف أن لو اتحطيت في مقارنة معاه هتختاريه هو مش انا…

-وليه احطك معاه في مقارنة اصلًا…

جمدت خضراويتاه لثوانِ لايصدق انها الى الان لم تتفهم مشاعره نحوها ولأول يشعر أنه ضئيل مقارنتًا بالآخر وبما تكنه له لذلك تسأل محبطًا:
-افهم من كده ان مفيش وجه مقارنة بينا بالنسبالك ؟ وأن انتمائك هيفضل ليه مش كده؟
زفرت و نزعت يدها من قبضته مبررة:
-“نضال” افهم… تعبه مش هيغير حاجة… انا وقفت جنبه علشان هو ابو ولادي

-بس خوفك عليه بيقول غير كده

-“نضال “لو سمحت انا موعدتكش بأي حاجة ومفيش حاجة تذكر بينا

غامت عينه وقال بنبرة مُوجعة يكشف الستار عن تلك القصة التي يملك طرف وحيد بها و لم تواتيه الشجاعة سابقًا أن يصرح بتفاصيلها:
-يمكن ده بالنسبالك بس…بس انا عمري ما عرفت انساكِ بسببك سافرت واتغربت علشان انسى انك بقيتي لراجل تاني عارف إني اتأخرت وقتها ومصرحتكيش بمشاعري بس ظروف مرض ابويا وموته وتعب امي منعوني إني اتقدملك و مكنش عندي الشجاعة ولا القوة وقتها إن اصارحك بمشاعري

-ده نصيب وبعدين ما انت كمان اتجوزت

استرسل بنبرة مختنقة بائسة وخضراويتاه الدامعة تحاول اقناعها:
-امي هي سبب جوازي من” هاجر”
وكانت بتقنعني بشتى الطرق ومش معنى ده إني مقدرتهاش؛ بالعكس انا كنت بحترمها وبقدر مشاعرها وكان عندي استعداد اكمل عمري معاها او مع غيرها بس يمكن ربنا رتب كل حاجة من تاني علشان يديني فرصة تانية انا بجد محتاجها
لتفر دمعة عاصية من سجن عيناه ويتلاشى ثباته الانفعالي ويستأنف بنبرة مختنقة متحسرة يذكرها بذلك اليوم المشؤوم:
-انا لما جريت على صريخ” سعاد” ولقيتك غرقانة في دمك وقفت عاجز قدامك وحسيت بروحي بتنسحب… وكان قلبي هو اللي بينزف مش انتِ واتمنيت اروح اقتله بس بأي حق كنت هعمل كده…أنا كنت مستغرب أزاي واحد زيه يخون ويهين ويأذي ويبقى ناقم وبيقلل من نعمة أنه متجوز واحدة هي كل احلام وامنيات راجل تاني

لاتعلم ما اصابها كل ما تعلمه أن دمعاتها كانت تتساقط من عيناها دون ارادة…وبعد ثوانِ من الصمت المعذب من كلاهما لم يكن يسمع غير انين دمعاتهم غمغمت هي:
-قولتلك كلامك مش هيغير حاجة يا “نضال”…انا آسفة على كل حاجة بس انا معنديش حاجة اقدر اديهالك سامحني وحاول زي ما عشت سنين من غيري تكمل حياتك أنت راجل أي ست في الدنيا تتمناك
ابتلع غصته المُعذبة وصارحها بكل وضوح:
-بس مش عايز غيرك
استرسلت بنبرة مختنقة بأنين جرحها:
-مش هينفع صدقني هظلمك انا واحدة مبقاش جواها حاجة تديها لحد…وحتى لو فكرت أنا مش هقدر اخسر ولادي صدقني انا معنديش استعداد ولا طاقة لكده

حاول دعمها وكأنه يتوسل حبها:
-حبي ليكِ هيقويكِ يا “رهف “وصدقيني أنا هبقى راضي بأقل القليل منك

نفت برأسها ثم غمغمت من بين دمعاتها التي لاتعلم سببها:
-مش هينفع…
احتل اليأس معالمه وتنهد تنهيدة حارقة محملة بأنين ذلك القلب المعذب ثم غمغم وهو يمرر يده على وجهه بنبرة مختنقة مغلفة بحزن مرير:
-مشكلتك أنك مش عارفة تصالحي نفسك ولا تسامحيها على اللي فات وبتحاولي تباني قوية… وزي ما اتأذيتي بتحاولي تأذي كل اللي حواليكِ… خليكِ صريحة مع نفسك قبل أي حد و صدقيني لو حبيتيها واتصالحتي معاها الأول هتشوفي كل حاجة بمنظور تاني و هتتأكدي انك تستاهلي فرصة تانية

صراحته تقتلها وتعريها دائمًا أمام نفسها فكيف يستطيع أن يسبر أغوارها لهذا الحد و تكون مكشوفة هكذا أمامه لذلك كرهت الأمر و استنكرت ضعفها بقولها التي لم تعنيه حقًا ولكن تفوهت به كي تحافظ على ماء وجهها :
-يمكن أنت معاك حق بس مش معني كده أن الفرصة التانية دي هتبقى معاك

نظر لها نظرة مطولة متألمة بسبب ذلك النصل التي غرسته بقلبه لتوها بحديثها، فما كان منها غير أن تقطع أخر السبل معه كي لا يتأمل هباءٍ:
-أنا هبعد يا “نضال” وارجوك حاول تقدر موقفي
حانت منه بسمة ممزقة متألمة ورد بسخرية مريرة يسخر بها من حظ قلبه اللعين الذي لم ينفك طوال سنين من حبها:
-موقفك…على العموم انا مش هفرض نفسي عليكِ اكتر من كده ومش ضروري تبعدي انا هبعد وهضغط على الزرار وانساكِ واوعدك بعدها مش هعترض طريقك ابدًا… أنا حتى لو شوفتك في حتة هدور وشي وهعمل نفسي معرفكيش… ليرفع رأسه بكبرياء ويضيف متهكمًا:
-تأمريني بحاجة تانية يا بشمهندسة

نفت برأسها وهرولت مغادرة و رغم أن ما فعلته هي راضية عنه إلا ان دمعاتها كانت تلاحق خطواتها وهي تشعر بشعور لم يراودها من قبل شعور غريب يتعدى التشتت و الضياع بمراحل عارمة.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية خطايا بريئة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى